ما بعد الفتح
.
بعد تمام النصر والفتح، اتخذ السلطان لقب "الفاتح" و"قيصر الروم" (بالتركية: Kayser-i Rûm)، على الرغم من أن هذا اللقب الأخير لم تعترف به بطركيّة القسطنطينية ولا أوروبا المسيحية. وكان السبب الذي جعل السلطان يتخذ هذا اللقب هو أن القسطنطينية كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية، بعد أن نُقل مركز الحكم إليها عام 330 بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، وكونه هو سلطان المدينة فكان من حقه أن يحمل هذا اللقب. وكان للسلطان رابطة دم بالأسرة الملكية البيزنطية، بما أن كثيرا من أسلافه، كالسلطان أورخان الأول، تزوجوا بأميرات بيزنطيات. ولم يكن السلطان هو الوحيد الذي حمل لقب القيصر في أيامه، إذ أن إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة في أوروبا الغربية، "فريدريش الثالث"، قال آنذاك بأنه يتحدر مباشرة من شارلمان، الذي حصل على لقب "قيصر" عندما توّجه البابا "ليو الثالث" عام 800، على الرغم من عدم اعتراف الإمبراطورية البيزنطية بهذا الأمر عندئذ.
وكان السلطان قد أمر بحبس الصدر الأعظم "خليل جندرلي باشا"، الذي اتهم أثناء حصار القسطنطينية بالتعامل مع العدو أو تلقيه رشوة منهم لفضح تحركات الجيش العثماني، فحُبس لمدة أربعين يومًا وسُملت عيناه، ثم حُكم عليه بالإعدام فأعدم.[57] تُفيد بعض المصادر أن السلطان محمد الفاتح قصد الموقع الذي بُنيت فيه مدينة طروادة في قديم الزمان، بعد 10 سنوات من فتح القسطنطينية، حيث قال أنه انتقم للطرواديين أخيراً، بعد أن قضى على الإغريق، أي البيزنطينين، وغزاهم كما غزوا طروادة.[58] يروي المؤرخ البريطاني "ستيفن رونسيمان" قصة منقولة عن المؤرخ البيزنطي "دوكاس"، المعروف بإضفائه النكهة الدرامية والمواصفات المؤثرة على كتاباته،[59] أنه عندما دخل محمد الثاني القسطنطينية، أمر بإحضار الابن الوسيم للدوق الأكبر "لوكاس نوتاراس" البالغ من العمر 14 ربيعًا، ليُشبع معه شهوته، وعندما رفض الأب تسليم ولده إلى السلطان، أمر الأخير بقطع رأس كليهما حيث وقفا.[60] يروي عالم اللاهوت ورئيس أساقفة ميتيليني "ليونارد الصاقيزي" نفس القصة في رسالة أرسلها إلى البابا نيقولا الخامس.[61] يرى المؤرخون المعتدلون والمؤرخون المسلمون، أن هذه الرواية عارية عن الصحة، وأن سببها كان الصدمة العنيفة التي تعرض لها العالم الأوروبي المسيحي عند سقوط المدينة المقدسة بيد المسلمين، حيث بذل الشعراء والأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين، وعقد الأمراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة وتنادوا إلى نبذ الخلافات والحزازات والتوحد ضد العثمانيين. وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمرًا عُقد في روما، أعلنت فيه الدول المشاركة عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن يتحقق إلا أن الموت عاجل البابا في 25 مارس سنة 1455، فلم تتم أي من هذه الخطط.[62]
[ الفتوحات التالية
فتح بلاد موره ومحاربة المجر
يوحنا هونياد، حاكم مملكة المجر (1446–1453) وترانسلفانيا (1441-1446).[63]
حصار بلغراد من قبل الجيش العثماني.
بعد إتمامه لترتيباته وبناء ما هُدم من أسوار القسطنطينية وتحصينها، أمر السلطان ببناء مسجد بالقرب من قبر أبي أيوب الأنصاري، جرت العادة فيما بعد أن يتقلد كل سلطان جديد سيف عثمان الغازي الأول في هذا المسجد،[64] ثم سافر بجنوده لفتح بلاد جديدة، فقصد بلاد موره، لكن لم ينتظر أميراها "دمتريوس" و"توماس"، أخوا قسطنطين، قدومه، بل أرسلا إليه يُخبرانه بقبولهما دفع جزية سنوية قدرها إثنا عشر ألف دوكا. فقبل السلطان ذلك، وغيّر وجهته قاصدًا بلاد الصرب، فأتى "هونياد" الشجاع المجري، الملقب "بالفارس الأبيض"،[65] وردّ عن الصرب مقدمة الجيوش العثمانية،[63] إلا أن الصرب لم يرغبوا في مساعدة المجر لهم لاختلاف مذهبهم، حيث كان المجر كاثوليكيين تابعين لبابا روما، والصرب أرثوذكسيين لا يذعنون لسلطة البابا بل كانوا يفضلون تسلط المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرضهم للدين مطلقًا. ولذلك أبرم أمير الصرب الصلح مع السلطان محمد الثاني على أن يدفع له سنويًا ثمانين ألف دوكا، وذلك في سنة 1454.[64]
وفي السنة التالية أعاد السلطان الكرّة على الصرب من جديد، بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ومر بجيوشه من جنوب تلك البلاد إلى شمالها بدون أن يلقى أقل معارضة حتى وصل مدينة بلغراد الواقعة على نهر الدانوب وحاصرها من جهة البر والنهر. وكان هونياد المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها ودافع عنها دفاع الأبطال حتى يئس السلطان من فتحها ورفع عنها الحصار سنة 1455. لكن وإن لم يتمكن العثمانيون من فتح عاصمة الصرب إلا أنهم أصابوا هونياد بجراح بليغة توفي بسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بنحو عشرين يومًا. ولما علم السلطان بموته أرسل الصدر الأعظم "محمود باشا" لإتمام فتح بلاد الصرب فأتمّ فتحها من سنة 1458 إلى سنة 1460.[64]
وفي هذه الأثناء تمّ فتح بلاد موره. ففي سنة 1458 فتح السلطان مدينة "كورنته" وما جاورها من بلاد اليونان حتى جرّد "طوماس باليولوج" أخا قسطنطين من جميع بلاده ولم يترك إقليم موره لأخيه دمتريوس إلا بشرط دفع الجزية. وبمجرّد ما رجع السلطان بجيوشه ثار طوماس وحارب الأتراك وأخاه معاً، فاستنجد دمتريوس بالسلطان فرجع بجيش عرمرم ولم يعد حتى تمّ فتح إقليم موره سنة 1460 فهرب طوماس إلى إيطاليا، ونُفي دمتريوس في إحدى جزر الأرخبيل. وفي ذلك الوقت فُتحت جزر تاسوس والبروس وغيرها من جزر بحر الروم.[64][66]
[عدل] توحيد الأناضول
وبعد عودة السلطان من بلاد اليونان أبرم صلحًا مع إسكندر بك وترك له إقليما ألبانيا وإيبيروس، ثم حوّل أنظاره إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها، فسار بجيشه دون أن يُعلم أحدًا بوجهته في أوائل سنة 1461، فهاجم أولاً ميناء بلدة أماستريس، وكانت مركز تجارة أهالي جنوة النازلين بهذه الأصقاع.[64] ولكون سكانها تجّارًا يُحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرّض لأموالهم ولا أرواحهم، فتحوا أبواب المدينة ودخلها العثمانيون بغير حرب. ثم أرسل إلى "اسفنديار" أمير مدينة سينوب يطلب منه تسليم بلده والخضوع له. ولأجل تعزيز هذا الطلب أرسل أحد قوّاده ومعه عدد عظيم من المراكب لحصار الميناء، فسلمها إليه الأمير وأقطعه السلطان أراض واسعة بأقليم "بيثينيا" مكافأة له على خضوعه. ثم قصد بنفسه مدينة طرابزون ودخلها دون مقاومة شديدة وقبض على الملك وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى القسطنطينية.[64]
محاربة أمير الفلاخ
الصورة الأشهر لأمير الفلاخ، فلاد الثالث المخوزق، على الرغم من أنها رُسمت بعد وفاته.[67][68]
ما أن عاد السلطان إلى القسطنطينية حتى جهز جيشًا لمحاربة أمير الفلاخ المدعو "فلاد دراكول الثالث المخوزق"، لمعاقبته على ما ارتكبه من الفظائع مع أهالي بلاده والتعدّي على التجار العثمانيين النازلين بها. فلمّا قرب منها، أرسل إليه هذا الأمير وفدا يعرض على السلطان دفع جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوكا بشرط أن يُصادق على جميع الشروط الواردة بالمعاهدة التي أبرمت في سنة 1393 بين أمير الفلاخ آنذاك والسلطان بايزيد الأول، فقبل السلطان محمد الثاني هذا الاقتراح وعاد بجيوشه. ولم يقصد أمير الفلاخ بهذه المعاهدة إلا التمكن من الاتحاد مع ملك المجر "متياس كورفينوس" ومحاربة العثمانيين.[69] فلمّا علم السلطان باتحادهما أرسل إليه مندوبين يسألانه عن الحقيقة، فقبض عليهما وقتلهما بوضعهما على عمود محدد من الخشب، الذي يُعرف بالخازوق.[70] وأغار بعدها على بلاد بلغاريا التابعة للدولة العثمانية وعاث فيها فسادًا، ورجع بخمسة وعشرين ألف أسير، فأرسل إليه السلطان رسلاً يدعونه إلى الطاعة وإخلاء سبيل الأسرى، فلمّا مثل الرسل أمامه أمرهم برفع عمائمهم لتعظيمه، وعند إبائهم طلبه لمخالفته لعوائدهم، أمر بأن تُسمّر عمائمهم على رؤسهم بمسامير من حديد.[71]
لوحة "المعركة بالمشاعل"، المناوشة الليلية بين الجيش العثماني والفلاخي، بريشة "ثيودور آمان".
فلمّا وصلت هذه الأخبار إلى السلطان محمد استشاط غضباً وسار على الفور بحوالي 60,000 جندي نظامي و 30,000 غير نظامي،[72] فوصل بسرعة إلى مدينة "بوخارست"، عاصمة الأمير، بعد أن هزمه وفرّق جيوشه، لكنه لم يتمكن من القبض عليه لمجازاته على ما اقترفه بحق العثمانيين والبلغار، لهروبه والتجائه إلى ملك المجر، فنادى السلطان بعزله ونصب مكانه أخاه "راؤول" لثقته به بما أنه تربّى في حضانة السلطان منذ نعومة أظفاره، وبذا ضُمّت بلاد الفلاخ إلى الدولة العثمانية. ويُقال أنه عند وصول السلطان محمد إلى ضواحي بوخارست، وجد حول المدينة غابة من الخوازيق التي عُلّقت عليها جثث الأسرى الذين أتى بهم أمير الفلاخ من بلاد بلغاريا، وقتلهم عن آخرهم بما فيهم الأطفال والنساء، وكذلك الجنود العثمانيين الذين كان قد قبض عليهم إثر مناوشة ليلية، وكان عددهم جميعا عشرين ألفاً.[71][73]
فتح البوسنة والعداء مع البندقية
الفرمان الذي أرسله السلطان محمد الثاني إلى أهالي البوسنة الفرنسيسكان.
في سنة 1462، حارب السلطان بلاد البوسنة لامتناع أميرها "استيفان توماسفيتش" عن دفع الخراج،[74] وأسره بعد معركة هو وولده وأمر بقتلهما، فدانت له جميع بلاد البشناق. وأرسل فرمانا إلى الفرنسيسكان من سكان تلك البلاد يُطمئنهم بعدم تعرّض أي منهم للاضطهاد بسبب معتقداتهم الدينية، فقال:[75][76]
"بسم الله الرحمن الرحيم
أنا السلطان محمد خان الفاتح،
أعلن للعالم أجمع أن،
أهل البوسنة الفرنسيسكان قد مُنحوا بموجب هذا الفرمان السلطاني حماية جلالتي. ونحن نأمر بأن:
لا يتعرض أحد لهؤلاء الناس ولا لكنائسهم وصلبهم ! وبأنهم سيعيشون بسلام في دولتي. وبأن أولئك الذين هجروا ديارهم منهم، سيحظون بالأمان والحرية. وسيُسمح لهم بالعودة إلى أديرتهم الواقعة ضمن حدود دولتنا العليّة.
لا أحد من دولتنا سواء كان نبيلاً، وزيرا، رجل دين، أو من خدمنا سيتعرض لهم في شرفهم وفي أنفسهم !
لا أحد سوف يهدد، أو يتعرض لهؤلاء الناس في أنفسهم، ممتلكاتهم، وكنائسهم !
وسيحظى كل ما أحضروه معهم من متاع من بلادهم بنفس الحماية...
وبإعلان هذا الفرمان، أقسم بالله العظيم الذي خلق الأرض في ستة أيام ورفع السماء بلا عمد، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وجميع الأنبياء والصالحين رضي الله عنهم أجمعين، بأنه؛ لن نسمح بأن يُخالف أي من أفراد رعيتنا أمر هذا الفرمان !"
وفي سنة 1464، أراد "متياس كورفينوس" ملك المجر استخلاص البوسنة من العثمانيين، فهُزم بعد أن قُتل معظم جيشه، وكانت عاقبة تدخله أن جُعلت البوسنة ولاية كباقي ولايات الدولة، وسُلبت ما كان مُنح لها من الامتيازات،[71] ودخل في جيش الإنكشارية ثلاثون ألفاً من شبانها وأسلم أغلب أشراف أهاليها.[77]
هذا وكانت قد ابتدأت حركات العدوان في سنة 1463 بين العثمانيين والبنادقة بسبب هروب أحد الرقيق إلى "كورون" التابعة للبندقية، وامتناعهم عن تسليمه بحجة أنه اعتنق المسيحية دينًا. فاتخذ العثمانيون ذلك سببًا للاستيلاء على مدينة آرغوس وغيرها.[78] فاستنجد البنادقة بحكومتهم، فأرسلت إليهم عدداً من السفن محملة بالجنود، وأنزلتهم إلى بلاد موره، فثار سكانها وقاتلوا الجنود العثمانيين المحافظين على بلادهم وأقاموا ما كان قد تهدم من سور برزخ كورون لمنع وصول المدد من الدولة العثمانية، وحاصروا المدينة نفسها واستخلصوا مدينة آرغوس من الأتراك. لكن لما علموا بقدوم السلطان مع جيش يبلغ عدده ثمانين ألف مقاتل، تركوا البرزخ راجعين على أعقابهم، فدخل العثمانيون بلاد موره بدون معارضة كبيرة واسترجعوا كل ما أخذوه وأرجعوا السكينة إلى البلاد. وفي السنة التالية أعاد البنادقة الكرّة على بلاد موره دون فائدة.[78]
الفرمان الذي أرسله السلطان محمد الثاني إلى أهالي البوسنة الفرنسيسكان.