المسألة الثالثة: كيف يحارب هؤلاء الدعوة؟
مما مضى تبين لنا أن الملأ هم حراس
النظام، أو هم المستفيدين من الوضع القائم قبل مجيء الدعوة الإسلامية، وأن
قضيتهم الأولى هي أن تبقى لهم السيادة.. الأمر والنهي.. الطاعة من الناس،
ولذا تجد أن الثابت عند الملأ هو الحفاظ على واقعهم.. نظامهم.. سلطانهم..
وما عدا ذلك متغير يتم تحريكه وإقصائه إن أثَّرَ سلبا على نظامهم، فهم
يستعملون كل ما بأيديهم للحفاظ على واقعهم.. نظامهم، ولا يثورون إلا على
من يسعى لتغيير واقعهم، ولعل النقطة التالية تبين الأمر:
حال الجاهلية مع الطيبين:
كانت الجاهلية تحب الحبيب محمدا صلى الله عليه وآله وسلم؛ تحبه وهو لا
يعكف على أصنامهم، ولا يشهد مشاهدهم، ولا يستقسم بأزلامهم... تحبه وهو
يفيض في الحج من عرفة لا المزدلفة مثلهم، تحبه وهو يتعبد الليالي ذوات
العدد في غار حراء، و حين قال لهم: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد،
قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" سَبُّوه وآذوه وفي الشِّعْبِ حاصروه، ثم
أخرجوه وقاتلوه.
و(ورقة بن نوفل)، ونفر آخر من الحنفاء كانوا بين ظهرانيهم يتكلمون بأنهم
مخطئون لا يتبعون حقا، ولم يتعرضوا لهم بشيء اللهم إلا (زيد بن عمرو بن
نفيل) حين أخذ يأمرهم وينهاهم وكلوا به عمه -وأخيه لأمه- الخطاب بن نفيل
(أبو عمر رضي الله عنه) فحبسه في إحدى الشعاب كي يكف (أذاه) عن قريش.
وصالح عليه السلام يناديه قومُه{قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا}[هود:62]
ومعلوم أن صالحا عليه السلام لم يكن مرجوا لمشاكلته قومه وإنما لحسن سيرته
بينهم... أحبوا صدقه وأمانته وحسن فعاله، وحين تكلم بالرسالة راح رجاءهم
وجاء تهديدهم وتكذيبهم. {
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ* فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً
نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ
الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:23ـ25].
وموسى عليه السلام تربى في قصر فرعون، وبالطبع لم يكن على دين فرعون، وما
آذاه فرعون ولا سعي في قتله حتى تكلم بالرسالة فكان ما كان.
وهذا حال الأنبياء جميعهم، فالصحيح عند أهل العلم أن العصمة ثابتة لأنبياء
الله قبل وبعد البعثة النبوية. ومع ذلك لم تبدأ العداوة بين نبي وقومه إلا
بعد أن بدأ يتحرك لتغير واقع الجاهلية.
فالجاهلية ما كانت تعبأ بشخص صالح، وإنما بشخصٍ مُصلح. بل هي تفرح
بالصالحين المنشغلين بأنفسهم... تنظر إليهم بعين الاحترام والتوقير...
ترجوهم وتخلع عليهم أرفع الألقاب -الصدق والأمانة مثلا- أما حين يتحركون
لتغير الأوضاع في المجتمع حينها تشتد الجاهلية وتتنكر لكل معروف عندها قبل
غيرها، وتبذل كل جهدها في الحفاظ على مجتمعها.
فرعون ينادي في قومه:{وَقَالَ
فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ
أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
والدين هو الحال ُ التي يكون عليها القوم، يقول بن كثير في تفسير الآية:
"يَخْشَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُضِلّ مُوسَى النَّاس وَيُغَيِّرَ رُسُومَهُمْ
وَعَادَاتهمْ".
فأخشى ما يخشاه فرعون هو أن تتغير عادات القوم وتقاليدهم.
وتدبر هذا الموقف من قوم نبي الله لوط عليه السلام حين أراد أن يغير مجتمعهم القذر أنظر بما أجابوه قال الله تعالى: {وَلُوطاً
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ *
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ
أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن
قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ}[النمل:54ــ 56].
ونبي الله شعيب لم يحمل سلاحا ولم يعلن جهادا على الكفر وأهله بل أخذ بمبدأ المسالمة والتغيير بالكلمة {وَإِن
كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائفة
لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ
خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[الأعراف:87].
ولكن الجاهلية لا تطيق كل محاولات التغيير حتى التي لا تتبنى مبدأ القتال سبيلا للتغير: {قَالَ
الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنَا...}[الأعراف:88 ].
فمنطق الجاهلية مع كل الحركات الإصلاحية الجادة: "لنخرجنكم من أرضنا أو
لتعودن في ملتنا" هذا هو قول جميعهم كما يحكيه ربنا تبارك وتعالى على لسان
كل الجاهليات من يوم كانوا إلى حين نزول القرآن:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13].
هذا هو منطقهم جميعهم -قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم- كما نصت الآية السابقة لهذه الآية... لم تستثن الآية أحدا.
أردت أن أقول:
ـ إن الجاهلية مجتمع ذو عادات وسلوك، يقوم عليه نفر من الناس.. من يسميهم
القرآن الكريم بـ (الملأ)، وهي تحافظ على مجتمعها وسلوكها ضد كل محاولات
التغيير. وهي تتنكر لكل الأعراف والقوانين التي سنتها هي لتسير عليها حين
ترى في الأفق بشائر التغيير. وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه لا بد من
المواجهة بين الجاهلية وكل حركات التغيير الجادة، وأن (القنوات الشرعية)
ضيقة مسدودة لا يمكن الوصول منها إلى المجتمع الصالح الذي يريده الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالجاهلية تقف غير بعيد تخاطب السائرين في
(القنوات الشرعية) وغير (الشرعية) بما قالته كل الجاهليات من قبل
"لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا" وحينها إما أن تسييس حركات
(الدعوة السلمية) التي تسيير في قنوات الجاهلية الشرعية وبالتالي تسلك
السبل التي تضلها عن الصراط المستقيم فتتبنى خطابا مَدَنِيّا، وتراعي حق
(الآخر) الذي لا يرضى أبدا أن يكون مواطنا من (الدرجة الثانية) كما أمر
الله ورسوله، والذي يطالب بمساحة واسعة من حرية إقامة الكنائس و(التبشير)
بكفره بين أظهر المسلمين. وإما أن تتصادم مع الجاهلية وتقف في وجهها.
هذا هو ما يقوله تاريخ الصراع بين الحق والباطل منذ تحرك ركب الإيمان... من نوح إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
والحال اليوم هو هو بأم عينه، فالصالح في نفسه الذي أغلق عليه باب داره،
وترك مال كسرى لكسرى ومال لله لله، تحمله الجاهلية على رأسها. و (المشاكس)
الذي لا تتعدى مشاكسته (القنوات الشرعية) تتفهم الجاهلية أحواله ولا تصطدم
معه إلا حين يخرج من (القنوات الشرعية) كما كان الحال مع الحنفاء (ورقة بن
نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث)، وفقط يكون صدامها معه من
أجل ضبطه وحمله على عدم الخروج من (القنوات الشرعية).
بل أحيانا -وتدبر معي- تكون هذه النوعية من الصالحين في أنفسهم التاركين
لغيرهم نوع من الدعامات أو قل من الحُلِي التي تتزين بها الجاهلية، فهي
أحيانا تدعي التسامح والحرية ومراعاة شعور (الآخر) وتستدل على ذلك بوجود
هذا النوع من الطيبين بين أظهرها.
يعود السؤال: كيف يحارب الملأ الدعوة؟
الملأ يستخدمون كل وسيلة للحفاظ على واقعهم (نظامهم)، ولا يتحركون ضد أحد
إلا حين يتهدد نظامهم، وهم يستعملون كل وسيلة لذلك. ويمكن إجمال الطرق
التي يستعملها الملأ في محاربة الدعوة في محورين أساسيين:
المحور الأول: محور خاص بالمخالفين (أتباع الدين الجديد) الخارجين على نظامهم. وفي هذا المحور وسيلتين يستعملهما الملأ:
i. محور أمني (التخويف).
ii. ومحور اقتصادي (التجويع ).
iii. التشهير بأهل الحق وإلحاق النقائص بهم، وهذا يشترك مع ما بعده.
iv. مجادلة بالباطل.. طرح شبهات وتساؤلات حول المذهب الجديد.
المحور الثاني: محور خاص بمن لم يتبعوا الدين الجديد، مَن لا زالوا على كفرهم.. (مذهبهم).. (تحت نظامهم) يأتمرون بأمرهم.
ويأتي على رأس هذه الوسائل (المكر) (الكيد) (تزيين الباطل) للأتباع، وباقي
الوسائل المستعملة هناك مع المخالفين حاضرة، إذْ أنها قائمة لكل من خالف
أمرهم، وخرج على سلطانهم.
أولا: المحور الأول الخاص بمن تمردوا على
الملأ ورفضوا سلطانهم، يستعملون ضدهم التجويع (الحصار الاقتصادي) والتخويف
(التهديد الأمني) و(التشهير) بهم وإلصاق النقيصة بشخصهم إن كانوا شرفاء
أصحاب جاه بين الناس، ويقيني بأن الشواهد على هذا حاضرة في ذهن كل من يقرأ
كلامي هذا، فهذا الأمر هو الذي يلحظه كل أحد يقرأ السيرة النبوية، وهذا هو
الذي يتكلم عنه كل من أراد أن يتكلم عن الفترة المكية في البعثة المحمدية،
وأستحضر بعض الشواهد المجملة من باب التذكير.
خير شاهد على هذا
قَوْلَةَ أبي جهل التي يرويها ابن هشام وغيره، (أن أبا جهل كان إذا سمع
بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة أَنّبَهُ وأخزاه وقال له تركت دين أبيك وهو
خير منك، لنسفهن حلمك، وَلَنُفَيّلَنّ رأيك، ولنضعنَّ شرفك؛ وإن كان تاجرا
قال والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به).
وعَقَدَ ابنُ هشام فصلا أسماه (ذِكْرُ عُدْوَانِ المشركين على المستضعفين
ممن أسلم بالأذى والفتنة) وقال تحته: "ثم إنهم عَدَوْا على من أسلم، واتبع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من
المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا
اشتد الحر" أ. هـ.
ومشهور ومعلوم في السيرة النبوية أن المشركين كانوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم ـ يتصنعون ذلك {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}[الفرقان:41]، ومن أتباع النبي ـصلى الله عليه وسلم يقولون تبعه العبيد والفقراء وغير ذلك، وهو دأبهم في كل زمان ومكان{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111].
ونلاحظُ في تعاملِ الجاهليةِ مع الدعوةِ هو أن الأسلوبَ كان يتصاعدُ مع
نمو الدعوةِ، فقد كان الأمرُ في بدايتهِ إهمالا.. لم يتلفتوا إليه وهو
يتحنث الليالي ذوات العدد في الغار، ولا حين بدأت الدعوة سرية، ثم حين
جاهرهم كان الرد كلاما، ومحاولةً للوصولِ إلى حلٍ وسطٍ،، وكانوا يراعونَ
الأعرافَ القبليةَ، ثم حين لم يُغنِ هذا طوَّرت الجاهليةُ أساليبها
وتنكرتْ لأعرافها، وعذبت أبنائها بل وقاتلتْهم وقتلتهم، وهي التي تقول:
(انصر أخاك ظالما أو مظلوما)!!!
ولستُ هنا معنيا بتتبع الأمثلة وحصرها وإنما ببيان السياق العام الذي
تتحرك فيه الجاهلية.. أبين عِلل الأفعال، وخلفيات النفوس بما يبدوا من
تحركات أصحابها.
ثانيا: بخصوص المحور الثاني الخاص بمن لم يتبعوا الدين الجديد، من لا
زالوا على كفرهم (مذهبهم) ..يأتمرون بأمرهم، قلتُ أن أولى الوسائل
المستعملة في صدِّ الأتباع عن دين الله هو (المكر) و(الكيد) و(الخديعة)،
يمارسها الملأ في حق أتباعهم؛ فخطاب الملأ لأتباعهم يأخذ شكل التنظير
لباطلهم، نوع من الحجج والبراهين يلقون بها لأتباعهم كي يبقونهم على ما هم
عليه، ونوع من التشهير والتشويش وإلصاق النقائص بالمخالفين الرافضين كي
ينصرف الناسُ عنهم.
يدل على هذا -ويوضحه- الحوار بين الفريقين حين يلتقيان بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، وتدبر:
يقول الله تعالى: {وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ
رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا
مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم
مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ
بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[سبأ:31 ـ 33].
الآيات تتكلم عن مكر الملأ بأقوامهم، و(المكر أصله في كلام العرب الاحتيال
والخديعة) يحاول الملأ التبرؤ من تهمة صد أتباعهم عن الهدى بعد إذ جاءهم،
ويكون رد العوام.. الذين اتبَعوا... الذين استضعِفوا.. ({بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}أي بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا وتغرونا وتمنونا وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء) ويتابع ({إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً}أي نظراء وآلهة معه وتقيموا لنا شبهاً وأشياءً من المحالِ تضلونا بها).
ويقول السعدي رحمه الله معلقا على قول الله تعالى: {وَقَالَ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ
لَهُ أَندَاداً}: (أي: بل الذي دهانا
منكم، ووصل إلينا من إضلالكم، ما دبرتموه من المكر، في الليل والنهار، إذ
تحسنون لنا الكفر، وتدعوننا إليه، وتقولون: إنه الحق، وتقدحون في الحق
وتهجنونه، وتزعمون أنه الباطل، فما زال مكركم بنا، وكيدكم إيانا، حتى
أغويتمونا وفتنتمونا).
فالملأ بالاحتيال والخديعة يُغرون
ويُمَنُّون ويحسنون الكفر ويَدْعون الناس إليه، وهذا ما يعنيني هنا، وهو
بيان أن الملأ يكذبون على قومهم، بيان أن من أساليب الملأ في محاربة
الدعوة هو التوجه بخطاب (فكري) لأتباعهم يصدونهم به عن الحق. وهذا واضح
جدا في كل المشاهد التي يحكيها القرآن عن الأتباع والمتبوعين حين يتواجهون
بين يدي الله عز وجل.
في سورة (ص) يقول الله تعالى: {هَذَا
فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا
النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ
قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ
لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا
لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ *
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَار * إِنَّ
ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:59 ـ 63].
فهنا الأتباع يلقون بالتبعة على (الملأ)، ويقولون لهم {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}(يعنون:
أنتم قدمتم لنا سكنى هذا المكان، وصلي النار بإضلالكم إيانا، ودعائكم لنا
إلى الكفر بالله، وتكذيب رسله، حتى ضللنا بإتباعكم، فاستوجبنا سكنى جهنم
اليوم).
وفي موضع آخر، يقول الله تعالى: {قَالَ
ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ
فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا
ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا
هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ
لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
({قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ}أي
أخراهم دخولا وهم الأتباع لأولاهم وهم المتبوعين لأنهم أشد جرما من
أتباعهم فدخلوا قبلهم فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة لأنهم هم
الذين أضلوهم عن سواء السبيل).
وفي سورة الصافات يقول الله تعالى: {احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن
دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُم مَّسْئُولُون * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ
الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ
* قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم
مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ
رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ
* فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:22ـ34].
فهنا يحشر الذين ظلموا وأزواجهم -شبهائهم ونظرائهم- وما كانوا يعبدون من
دون الله، ويدور الحوار بين الأتباع والمتبوعين، يقول الأتباع لأسيادهم {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}أي: (من جهة النصح.. مجيء من إذا حلف لنا صدقناه).
أقول: جميع مواقف العتاب بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين في يوم
القيامة وفي النار -عياذا بالله- يتكلم فيها الأتباع عن مكرٍ مكره الملأ
عليهم.. عن كيد كادوهم به، والكلام على حقيقته لا نعلم له صارف.
والقرآنُ يتحدثُ عن أن الملأ يكيدون كيدا، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً}[الطارق: 15] لاحظ يؤكد الفعل بالمفعول المطلق، ويكيدون كيدا تعني (يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن).
والشيطان وهو المتبوع الأول لكل من خالف الحق يقول لأتباعه يوم القيامة {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}[إبراهيم:22]، أي (نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي، وزينته لكم، فاستجبتم لي وإتباعا لأهوائكم وشهواتكم).
هذا هو حال الملأ في صدهم عن سبيل الله حين يتكلمون إلى متبوعيهم، ولعل هذا يوضح قول الله تعالى: {كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ
أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ
لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[غافر:5].
في كل أمة الكافرون يقاتلون {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}في ذات الوقت الذي يجادلون فيه بالباطل لإزالة (دحض) الحق {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}.
مع المؤمنين قتال ودفع بكل ما في أيديهم ومع قومهم جدال بالتي هي أحسن،
وقد تتداخل الأساليب وتتبدل، فتجدهم أحيانا يرهبون قومهم ليبقوا على ما هم
عليه، وتجدهم حينا يجادلون المؤمنين ليشككوهم.