ارحل وعارك في يديك |
*** |
كل الذي أخفيته يبدو عليك |
فاخلع ثيابك وارتحل |
اعتدت أن تمضي أمام الناس |
دوما عاريا |
فارحل وعارك في يديك |
لا تنتظر طفلا يتيما بابتسامته البريئة |
أن يقبل وجنتيك |
لا تنتظر عصفورة بيضاء |
تغفو في ثيابك |
ربما سكنت إليك |
لا تنتظر أما تطاردها دموع الراحلين |
لعلها تبكي عليك |
لا تنتظر صفحا جميلا |
فالدماء السود مازالت تلوث راحتيك |
وعلي يديك دماء شعب آمن |
مهما توارت لن يفارق مقلتيك |
كل الصغار الضائعين |
علي بحار الدم في بغداد صاروا.. |
وشم عار في جبينك |
كلما أخفيته يبدو عليك |
كل الشواهد فوق غزة والجليل |
الآن تحمل سخطها الدامي |
وتلعن والديك |
ماذا تبقي من حشود الموت |
في بغداد.. قل لي |
لم يعد شيء لديك |
هذي نهايتك الحزينة |
بين أطلال الخرائب |
والدمار يلف غزة |
والليالي السود.. شاهدة عليك |
فارحل وعارك في يديك |
الآن ترحل غير مأسوف عليك.. |
*** |
ارحل وعارك في يديك |
انظر إلي صمت المساجد والمنابر تشتكي |
ويصيح في أرجائها شبح الدمار |
انظر إلي بغداد تنعي أهلها |
ويطوف فيها الموت من دار لدار |
الآن ترحل عن ثري بغداد |
خلف جنودك القتلي |
وعارك أي عار |
مهما اعتذرت أمام شعبك |
لن يفيدك الاعتذار |
ولمن يكون الاعتذار ؟ |
للأرض.. للطرقات.. للأحياء.. للموتي.. |
وللمدن العتيقة.. للصغار ؟! |
لمواكب التاريخ.. للأرض الحزينة |
للشواطيء.. للقفار ؟! |
لعيون طفل مات في عينيه ضوء الصبح |
واختنق النهار ؟! |
لدموع أم |
لم تزل تبكي وحيدا |
صار طيفا ساكنا فوق الجدار ؟! |
لمواكب غابت |
وأضناها مع الأيام طول الانتظار ؟! |
لمن يكون الاعتذار ؟ |
لأماكن تبكي علي أطلالها |
ومدائن صارت بقايا من غبار ؟! |
لله حين تنام |
في قبر وحيدا.. والجحيم تلال نار ؟!! |
*** |
ارحل وعارك في يديك |
لاشيء يبكي في رحيلك.. |
رغم أن الناس تبكي عادة عند الرحيل |
لاشيء يبدو في وداعك |
لا غناء.. ولادموع.. ولاصهيل |
مالي أري الأشجار صامتة |
وأضواء الشوارع أغلقت أحداقها |
واستسلمت لليل.. والصمت الطويل |
مالي أري الأنفاس خافتة |
ووجه الصبح مكتئبا |
وأحلاما بلون الموت |
تركض خلف وهم مستحيل |
اسمع جنودك |
في ثري بغداد ينتحبون في هلع |
فهذا قاتل.. ينعي القتيل.. |
جثث الجنود علي المفارق |
بين مأجور يعربد |
أو مصاب يدفن العلم الذليل |
ماذا تركت الآن في بغداد من ذكري |
علي وجه الجداول.. |
غير دمع كلما اختنقت يسيل |
صمت الشواطئ.. وحشة المدن الحزينة.. |
بؤس أطفال صغار |
أمهات في الثري الدامي |
صراخ.. أو عويل.. |
طفل يفتش في ظلام الليل |
عن بيت تواري |
يسأل الأطلال في فزع |
ولا يجد الدليل |
سرب النخيل علي ضفاف النهر يصرخ |
هل تري شاهدت يوما.. |
غضبة الشطآن من قهر النخيل ؟! |
الآن ترحل عن ثري بغداد |
تحمل عارك المسكون |
بالنصر المزيف |
حلمك الواهي الهزيل.. |
*** |
ارحل وعارك في يديك |
هذي سفينتك الكئيبة |
في سواد الليل ترحل |
لا أمان.. ولا شراع |
تمضي وحيدا في خريف العمر.. |
لا عرش لديك.. ولا متاع |
لا أهل.. لا أحباب.. لا أصحاب |
لا سندا.. ولا أتباع |
كل العصابة فارقتك إلي الجحيم |
وأنت تنتظر النهاية.. |
بعد أن سقط القناع |
الكون في عينيك كان مواكبا للشر.. |
والدنيا قطيع من رعاع |
الأفق يهرب والسفينة تختفي |
بين العواصف.. والقلاع |
هذا ضمير الكون يصرخ |
والشموع السود تلهث |
خلف قافلة الوداع |
والدهر يروي قصة السلطان |
يكذب.. ثم يكذب.. ثم يكذب |
ثم يحترف التنطع.. والبلادة والخداع |
هذا مصير الحاكم الكذاب |
موت.. أو سقوط.. أو ضياع |
*** |
ما عاد يجدي.. |
أن تعيد عقارب الساعات.. يوما للوراء |
أو تطلب الصفح الجميل.. |
وأنت تخفي من حياتك صفحة سوداء |
هذا كتابك في يديك فكيف تحلم أن تري.. |
عند النهاية صفحة بيضاء |
الأمس مات.. |
ولن تعيدك للهداية توبة عرجاء |
وإذا اغتسلت من الذنوب |
فكيف تنجو من دماء الأبرياء |
وإذا برئت من الدماء.. فلن تبرئك السماء |
لو سال دمعك ألف عام لن يطهرك البكاء |
كل الذي في الأرض |
يلعن وجهك المرسوم |
من فزع الصغار وصرخة الشهداء |
أخطأت حين ظننت يوما |
أن في التاريخ أمجادا لبعض الأغبياء.. |
*** |
ارحل وعارك في يديك |
وجه كئيب |
وجهك المنقوش فوق شواهد الموتي |
وسكان القبور |
أشلاء غزة والدمار سفينة سوداء |
تقتحم المفارق والجسور |
انظر إلي الأطفال يرتعدون |
في صخب الليالي السود.. |
والحقد الدفين علي الوجوه |
زئير بركان يثور |
وجه قبيح وجهك المرصود |
من عبث الضلال.. وأوصياء الزور |
لم يبق في بغداد شيء.. |
فالرصاص يطل من جثث الشوارع |
والردي شبح يدور |
حزن المساجد والمنابر تشتكي |
صلواتها الخرساء.. |
من زمن الضلالة والفجور |
*** |
ارحل وعارك في يديك |
ما عاد يجدي أن يفيق ضميرك المهزوم |
أن تبدي أمام الناس شيئا من ندم |
فيداك غارقتان في أنهار دم |
شبح الشظايا والمدي قتلي |
ووجه الكون أطلال.. وطفل جائع |
من ألف عام لم ينم |
جثث النخيل علي الضفاف |
وقد تبدل حالها |
واستسلمت للموت حزنا.. والعدم |
شطآن غزه كيف شردها الخراب |
ومات في أحشائها أحلي نغم |
وطن عريق كان أرضا للبطولة.. |
صار مأوي للرمم! |
الآن يروي الهاربون من الجحيم |
حكاية الذئب الذي أكل الغنم |
: كان القطيع ينام سكرانا |
من النفط المعتق |
والعطايا.. والهدايا.. والنعم |
منذ الأزل |
كانوا يسمون العرب |
عبدوا العجول.. وتوجوا الأصنام.. |
واسترخت قوافلهم.. وناموا كالقطيع |
وكل قافلة يزينها صنم |
يقضون نصف الليل في وكرالبغايا.. |
يشربون الوهم في سفح الهرم |
الذئب طاف علي الشواطيء |
أسكرته روائح الزمن اللقيط |
لأمة عرجاء قالوا إنها كانت ـ ورب الناس ـ من خير الأمم.. |
يحكون كيف تفرعن الذئب القبيح |
فغاص في دم الفرات.. |
وهام في نفط الخليج.. |
وعاث فيهم وانتقم |
سجن الصغار مع الكبار.. |
وطارد الأحياء والموتي |
وأفتي الناس زورا في الحرم |
قد أفسد الذئب اللئيم |
طبائع الأيام فينا.. والذمم |
الأمة الخرساء تركع دائما |
للغاصبين.. لكل أفاق حكم |
لم يبق شيء للقطيع |
سوي الضلالة.. والكآبة.. والسأم |
أطفال غزه يرسمون علي |
ثراها ألف وجه للرحيل.. |
وألف وجه للالم |
الموت حاصرهم فناموا في القبور |
وعانقوا أشلاءهم |
لكن صوت الحق فيهم لم ينم |
يحكون عن ذئب حقير |
أطلق الفئران ليلا في المدينة |
ثم اسكره الدمار |
مضي سعيدا.. وابتسم.. |
في صمتها تنعي المدينة |
أمة غرقت مع الطوفان |
واسترخت سنينـا في العدم |
يحكون عن زمن النطاعة |
عن خيول خانها الفرسان |
عن وطن تآكل وانهزم |
والراكعون علي الكراسي |
يضحكون مع النهاية.. |
لا ضمير.. ولا حياء.. ولا ندم |
الذئب يجلس خلف قلعته المهيبة |
يجمع الحراس فيها.. والخدم |
ويطل من عينيه ضوء شاحب |
ويري الفضاء مشانقا |
سوداء تصفع كل جلاد ظلم |
والأمة الخرساء |
تروي قصة الذئب الذي خدع القطيع.. |
ومارس الفحشاء.. واغتصب الغنم |
*** |
ارحل وعارك في يديك |
مازلت تنتظر الجنود العائدين.. |
بلا وجوه.. أو ملامح |
صاروا علي وجه الزمان |
خريطة صماء تروي.. |
ما ارتكبت من المآسي.. والمذابح |
قد كنت تحلم أن تصافحهم |
ولكن الشواهد والمقابر لا تصافح |
إن كنت ترجو العفو منهم |
كيف للأشلاء يوما أن تسامح |
بين القبور تطل أسماء.. |
وتسري صرخة خرساء |
نامت في الجوانح |
فرق كبير.. |
بين سلطان يتوجه الجلال |
وبين سفاح تطارده الفضائح |
*** |
الآن ترحل غير مأسوف عليك |
في موكب التاريخ سوف يطل وجهك |
بين تجار الدمار وعصبة الطغيان |
ارحل وسافر.. |
في كهوف الصمت والنسيان |
فالأرض تنزع من ثراها |
كل سلطان تجبر.. كل وغد خان |
الآن تسكر.. والنبيذ الأسود الملعون |
من دمع الضحايا.. من دم الأكفان |
سيطل وجهك دائما |
في ساحة الموت الجبان |
وتري النهاية رحلة سوداء |
سطرها جنون الحقد.. والعدوان |
في كل عصر سوف تبدو قصة |
مجهولة العنوان |
في كل عهد سوف تبدو صورة |
للزيف.. والتضليل.. والبهتان |
في كل عصر سوف يبدو |
وجهك الموصوم بالكذب الرخيص |
فكيف ترجو العفو والغفران |
قل لي بربك.. |
كيف تنجو الآن من هذا الهوان ؟! |
ما أسوأ الإنسان حين يبيع سر الله للشيطان |
*** |
في قصرك الريفي.. |
سوف يزورك القتلي بلا استئذان |
وتري الجنود الراحلين |
شريط أحزان علي الجدران |
يتدفقون من النوافذ.. من حقول الموت |
أفواجا علي الميدان |
يتسللون من الحدائق.. والفنادق |
من جحور الأرض كالطوفان |
وتري بقاياهم بكل مكان |
ستدور وحدك في جنون |
تسأل الناس الأمان |
أين المفر وكل ما في الأرض حولك |
يعلن العصيان ؟! |
الناس.. والطرقات.. والشهداء والقتلي |
عويل البحر والشطآن |
والآن لا جيش.. ولا بطش.. ولا سلطان |
وتعود تسأل عن رجالك: أين راحوا ؟ |
كيف فر الأهل.. والأصحاب.. والجيران ؟ |
يرتد صوت الموت يجتاح المدينة |
لم يعد أحد من الأعوان |
هربوا جميعا.. |
بعد أن سرقوا المزاد.. وكان ما قد كان |
ستطل خلف الأفق قافلة من الأحزان |
حشد الجنود العائدين علي جناح الموت |
أسماء بلا عنوان |
صور الضحايا والدماء السود.. |
تنزف من مآقيهم بكل مكان |
أطلال بغداد الحزينة |
صرخة امرأة تقاوم خسة السجان |
صوت الشهيد علي روابي القدس.. |
يقرأ سورة الرحمن |
وعلي امتداد الأفق مئذنة بلون الفجر |
في شوق تعانق مريم العذراء |
يرتفع الأذان |
الوافدون أمام بيتك يرفعون رؤوسهم |
وتطل أيديهم من الأكفان |
مازلت تسأل عن ديانتهم |
وأين الشيخ.. والقديس.. والرهبان ؟ |
هذي أياديهم تصافح بعضها |
وتعود ترفع راية العصيان |
يتظاهر العربي.. والغربي |
والقبطي والبوذي |
ضد مجازر الشيطان |
حين استوي في الأرض خلق الله |
كان العدل صوت الله في الأديان |
فتوحدت في كل شيء صورة الإيمان |
وأضاءت الدنيا بنور الحق |
في التوراة.. والإنجيل.. والقرآن |
الله جل جلاله.. في كل شيء |
كرم الإنسان |
لا فرق في لون.. ولا دين |
ولا لغة.. ولا أوطان |
’خلق الإنسان علمه البيان’ |
الشمس والقمر البديع |
علي سماء الحب يلتقيان |
العدل والحق المثابر |
والضمير.. هدي لكل زمان |
كل الذي في الكون يقرأ |
سورة الإنسان.. |
يرسم صورة الإنسان.. |
فالله وحدنا.. وفرق بيننا الطغيان |
*** |
فاخلع ثيابك وارتحل |
وارحل وعارك في يديك |
فالأرض كل الأرض ساخطة عليك |